◄إنّ المراد من ذم الدنيا ليس الدنيا نفسها بل هو حب الدنيا، ذلك أنّ الخطر لا يكمن في الدنيا ذاتها بل في التعلق بها.
فالثروة والمال والجاه والمرأة والأولاد ليست أموراً مذمومة بل إنّ التعلق بها هو المذموم، ذلك أنّ الدنيا هي ما خلق الله سبحانه من شمس وقمر وأرض ونجوم وجماد ونبات وحيوان وإنّ الدنيا عبارة عن المرأة والولد والمال والثروة، وكلّ هذه موجودات خلقها الله وأبدعها وأقسم بها فلا يمكن أبداً أن تكون مذمومة. إنّ الذم ينحصر في التعلق بهذه الأمور، وينطوي هنا معنى الزهد في الدنيا.
قد يرد إشكال في هذا العرض وتساؤل عن الفرق بين أن نقول بأنّ الدنيا مذمومة ينبغي تركها وبين أن نقول بأنّ حب الدنيا هو المذموم. فلماذا يكون حب الدنيا مذموماً وهو أمر غرسه الله في نفس الإنسان، ولماذا لا يكون هذا الجانب مقدساً كسائر مخلوقات الله؟ إذ لولا هذا الميل للدنيا الذي أودعه الله في نفس الإنسان بل وفي نفس كلّ كائن حي لما استمرت الحياة على وجه الأرض ولما دافع الإنسان عن نفسه ضد الأخطار التي تواجهه ولما وجدت تلك الرغبة في نفوس الحيوانات في الاستمرار في العيش والدفاع عن الحياة ولما ترعرع الحب في قلب الرجل للمرأة والأولاد. فمن أجل استمرار الأجيال وبقاء النوع الإنساني أودع الله في نفس هذا المخلوق رغبات وميولاً شتى: فمن حبّه إلى العزة والقدرة إلى الميل في كسب العلوم والتمتع بالجمال وغير ذلك من الميول.
إذا كنّا لا نستطيع أن نذّم العالم وما فيه من موجودات ومخلوقات فإنّ في هذه الحالة لا يمكننا أن نذم التعلق والرغبة بها لأنّها جزء من الخلق شأنها شأن سائر أعضاء الإنسان، ذلك أنّ كلّ ما هو موجود في الإنسان إنما يستند إلى حكمة في خلقه حتى الشعرة الواحدة والعرق المتناهي في الصغر. لا يوجد شيء زائد أو عبث في الخلق، كذلك الجانب الروحي في الإنسان فالرغبات والميول هي الأخرى ليست موجودة عبثاً أو دون حكمة، وإذن فإنّ ترك حب الدنيا ينطوي على نفس الإشكال الذي يثار في مسألة ترك الدنيا ذاتها.
والجواب على هذا الإشكال هو أنّ المقصود من حب الدنيا ليس ذلك الميل الفطري الذي تنطوي فيه حكمة الحقّ كما تعبر عنه الآية الكريمة: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً) (الرّوم/ 21).
وهذا نبينا الأكرم (ص) يقول: "أحببت من دنياكم ثلاث: الطيب والنساء وقرة عيني الصلاة".
وإذن فإنّ المراد من ترك الدنيا ليس الميول الفطرية التي أودعها الله في الذات الإنسانية. ولو وجد إنسان يفتقر إلى جميع العواطف والمشاعر والميول، ليس له أصدقاء يهفو إليهم وينظر إلى أولاده كما لو كانوا غرباء أو ينظر إليهم كما لو كانوا حجارة أو أعمدة من خشب. حتى لو افترضنا بأنّه يحبّهم لأنّهم خلق من مخلوقات الله فلا شك أنّ مثل هذا الإنسان ناقص.
إذا كان إبراهيم الذي أراد ذبح ولده إسماعيل ينظر إليه كما لو كان كبشاً لما كانت التضحية هذه قيمة في طريق الكمال، كذلك لو كان الإمام الحسين سيد الشهداء الذي قدم إخوته وأصحابه وأهل بيته ضحايا في سبيل الله لا يكترث بهم لما كانت لتضحيته هذه، هذا الشأن.
فالمراد إذن أمر آخر. قال تعالى: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ) (آل عمران/ 14).
اشتملت هذه الآية الكريمة على جملة أمور هي: المرأة، الأولاد، الأموال من ذهب وفضة، الخيل المزينة، الأنعام، والمزارع، وإلخ من متاع الحياة الدنيا، وجوّ الآية يوحي بالانتقاد، فما هو الشيء الذي تذّمه الآية؟ نفس تلك الأمور التي استعرضتها وأشارت إليها؟ هل تنتقد نفس المرأة والأولاد والثروة، وغيرها؟ كلا! هل تنتقد الميل الفطري لها؟ كلا أيضاً! إذن ماذا تنتقد الآية؟ إنّها تنتقد الاستغراق في هذا المتاع والغفلة عما وراء ذلك. إنها تذمّ الانسياق وراء الملذات دون رويّة وتدبّر فيما وراء هذه الحياة (ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ) (النجم/ 30).
لقد تحدث القرآن الكريم عن إنسان بلغ من عبادته لله شأناً عظيماً ثمّ انحرف عن الطريق من أجل بعض المنافع المادية، قال تعالى: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ) (الأعراف/ 175).
وكان بإمكانه أن ينال بها سعادة الدارين ولكنه اتبع خطوات الشيطان (وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ) (الأعراف/ 176)، لقد كان بإمكانه أن يترفع ولكنه التصق بالأرض واتبع هواه.
قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (يونس/ 7-8).
نفهم من مجموع هذه الآيات أنّ ما يذمّه الدين ويرفضه هو الانقطاع إلى الدنيا والغفلة عن الله والآخرة، والإخلاد إلى الأرض والالتصاق بها والاكتفاء بالحياة الدنيا، وعندما يقال بأنّ الدنيا مذمومة فالمراد هو التعلّق بها والتوقّف عندها وعدم النظر والتدبر بما بعدها.
قال الإمام عليّ (ع): "وإنما الدنيا منتهى بصر الأعمى".
الجانب الذي يذمّه الدين هو العمى، عدم امتداد النظر إلى ما وراء حجب الطبيعة، انحصار الفكر بالمادة. يقول القرآن الكريم: (فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ) (النجم/ 29-30).
إنّ حب الدنيا وحب النساء والأولاد والأموال والجاه مسألة فطريّة أودعها الله في ذات الإنسان من أجل استمرار الحياة، ولو سلبت منه لنسفت حياته في الدنيا وحياته في الآخرة.
إنّ حركة الحياة والتكامل تتوقف على تلك الميول الفطرية، ولكن الانقطاع إليها والاكتفاء بها سيوقف الإنسان في حدود حيوانيته وسيمنعه من السير في طريق التكامل.
إذن فمن هو التارك للدنيا الزاهد فيها؟ إنّه الإنسان الذي سخّر الدنيا من أجل الوصول إلى هدفه السامي في الآخرة.
إنّ الانقطاع إلى الدنيا لا يؤدي إلى توقف حياة الإنسان بل إلى تدميرها فهل تظنون أنّ الحرص يتمكن من إدارة الدنيا؟ أو أنّ الطمع قادر على تسيير الحياة؟ أو أنّ الغضب والشهوة يمكنها من منح العالم قدراً من النظام؟ وهل أنّ عبادة البطن أو المرأة أو المال أو الجاه أو كلّ ما يعبر عن الاكتفاء بالدنيا والاستغراق فيها قادر على منح السعادة للإنسان؟ إنّ الإنسان لا يمكنه أن يدير الدنيا أو يصنع مدينته الفاضلة، ويحيى حرّاً إلا إذا سخر الدنيا لإرادته ولم يصبح أسيراً لها تتقاذفه أمواجها المتلاطمة.
إنّ جميع الرذائل كالكذب والرياء والتملق والظلم إنما تنشأ من عبادة الدنيا، وفي مقابل ذلك فإنّ جميع الفضائل إنما تنتج عن الزهد في الدنيا وعدم الاكتفاء بها.
إنّ الإنسان لا يمكنه أن يصبح شجاعاً إذا كان غارقاً في حب الدنيا وعبادتها كما لا يمكنه أن يكون عفيفاً أو أن يعيش حياته حراً كريماً.
إنّ الزاهد هو من تتوفر فيه هذه الخصال لا الإنسان المنزوي الذي يعيش على هامش الحياة ضعيفاً سلبياً متطفلاً خاضعاً لعبيد الدنيا.
الزاهد هو من يسمو على أولئك العبيد بفكرة لا يخشى فراق الحياة وتقلباتها، شجاع جريء حرّ عفيف كريم وتملأ نفسه روح التضحية والفداء.
إنّ أوّل خصلة في أولئك الذين يضحون بأنفسهم هي الزهد في الدنيا بكلّ ما للزهد من معاني، فهذا عليّ أمير المؤمنين (ع) الذي هو خلاصة جميع الفضائل الإنسانية من عدالة وتقوى وشجاعة وحرية وسخاء وكرم ووفاء ومروءة، لقد حاز جميع هذه الصفات لأنّه رأى نفسه أسمى وأشرف من الدنيا وما فيها، قال في وصيته لولده الحسن: وأكرم نفس عن كلّ دنيّة وإن ساقتك إلى الرغائب فإنك لن تعتاض بما تبذل من نفسك عوضاً، ولا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حراً، وما خير لا ينال إلا بشرّ" وقال (ع): "الدنيا دار ممر لا دار مقر، والناس رجلان، رجل باع نفسه فأوبقها، ورجل ابتاع نفسه فأعتقها".
وهناك فريق يعيش ثمّ يغادر الدنيا وفي رقبته آلاف القيود وهناك فريق آخر يغادر الدنيا حرّاً لا يعرف للعبودية معنى، إلا عبودية الله سبحانه، لا يعبد الشهوة والمال ولا ينقاد للغضب ولا يخضع للجاه ولا يستسلم للثراء بل يحيى حرّاً كريم النفس، وهذا هو المعنى الحقيقي للزهد.►
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق